samedi 9 février 2019

هل يجوز الاتفاق على مخالفة قواعد الاختصاص الترابي في نزاع الشغل؟؟

كثيرا ما تحتوي عقود الشغل على بند يسند الاختصاص الترابي لمحكمة معينة في صورة نزاع بين طرفي العقد. هل يمكن أن يتفق الطرفان على محكمة تختص ترابيّا للنظر في الخصومة تختلف عن مرجع النظر المبين بمجلة الشغل في الفصل 214 ؟ ما مدى حجية هذا الاتفاق إزاء الطرفين؟ تتعلق المسألة إجرائيّا بمدى جواز الدفع بعدم الاختصاص الترابي أمام دائرة الشغل بناء على اتفاق الطرفين؟
يحدّد الفصل 214 من مجلة الشغل المحكمة المختصة بالنظر ترابيّا في نزاع الشغل وهي محكمة مكان المؤسسة التي يقع بها إنجاز العمل ومكان إقامة العامل عند إنجاز العمل خارج المؤسسة ويمكن للعامل فضلا عن ذلك رفع النزاع بمكان التعاقد.
"ترفع النزاعات لدى دائرة الشغل حيث توجد بدائرتها المؤسسة التي يتم فيها إنجاز العمل.وفي صورة إنجاز العمل خارج المؤسسة فإنّ النزاع يرفع لدى دائرة الشغل التي يوجد بدائرتها مكان إقامة العاملويمكن لهذا الأخير في جميع الحالات رفع الدعوى أمام دائرة الشغل التي تم بدائرتها التعاقد. وإذا كانت دائرة الشغل مقسّمة إلى عدّة فروع فإنّ تحديد الفرع المختص يتم حسب نشاط المؤسسة مهما كانت صبغتها."كما اقتضى الفصل 232 من مجلة الشغل أنه تنطبق على أحكام مجلة المرافعات المدنية والتجارية ما لم تخالف أحكام المنصوص عليها بهذا العنوان"
بالنسبة لقواعد الاختصاص الترابي بصورة عامّة تقرّ القاعدة أنّه يمكن الاتفاق على قواعد الاختصاص الترابي باعتبار أنها لا تهم النظام العام وتمنع المحكمة من التمسك بعدم الاختصاص الترابي من تلقاء نفسها. وقد اقتضى الفصل 18 من مجلة المرافعات المدنية والتجارية أن الخصم الذي يقع استدعاؤه لدى محكمة متحدة الدرجة مع المحكمة التي يجب رفع القضيّة لديها له طلب التخلي عنها للمحكمة الراجع إليها النظر بشرط أن يقدم طلبه قبل الخوض في أصل القضيّة وإلا فمطلبه غير مقبول.
غير أنّ تطوّر فقه القضاء ذهب في اتجاه اعتبار قواعد الاختصاص الترابي تهم النظام العام كلما تدخّل المشرّع بصورة مخصوصة لتحديدها وكلّما تخلى المشرّع لأسباب معيّنة عن معيار قاعدة مقر المطلوب مثلما هو الأمر في المادّة الشغلية.
وقد تبلور هذا المنحى في أحد أهم القرارات الصادرة عن الدوائر المجتمعة في مادّة الاختصاص الترابي بتاريخ 9 مارس 2006 عندما أقرت الأخيرة المبدأ التالي :

 "إنّ قاعدة سعي الدائن لدى مدينه لمقاضاته أمام المحكمة التي بدائرتها مقره القانوني قاعدة إجرائية لا تهم إلا مصالح الخصوم لكنها هي الأصل والأساس لتحديد مرجع النظر الترابي للمحاكم طالما بقي مقر المطلوب هو العنصر المحدّد للاختصاص أمّا عندما يتخلى المشرّع عن هذا المعيار ويختار غيره لتحديد مرجع النظر الترابي كأن يختار لتحديده موقع العقّار، فإنّ تلك القاعدة تفقد طبيعتها كقاعدة راعية لمصالح الخصوم الشخصيّة لتصبح قاعدة منظمة لمرفق العدالة وراعية لحسن سير القضاء وتلك القواعد الآمرة تثيرها المحكمة من تلقاء نفسها."
صدر هذا القرار عن محكمة التعقيب بدوائرها المجتمعة برئاسة القاضي المبروك بن موسى بتاريخ 9 مارس 2006 تحت عـ749ـدد ولئن كان القرار صادرا في مادّة الأكرية التجارية فإنّه يحدّد  بعبارات عامّة مبدأ على غاية من الأهميّة وهي أنّ قواعد الاختصاص الترابي عندما يحدّدها المشرّع بصورة خاصّة متخليا عن معيار مقر المطلوب تصبح قواعد آمرة تهم النظام العام.
يساند هذا الموقف الأستاذان  الحسين بن سليمة وأحمد الجندوبي حين يكتبان  "....قواعد الاختصاص الترابي لا تهم النظام العام ويجوز للأطراف الاتفاق على مخالفتها غير أن المشرّع في حالات استثنائيّة ولعدّة اعتبارات تتعلق بالنظام العام جعل الاختصاص الترابي في دعاوى معينة لمحكمة معينة بالذات من المحاكم، وعلى ذلك فإنه لا يجوز للخصوم الاتفاق على مخالفة تلك القواعد"
بالنسبة للمادّة الشغلية فإن ما تطرحه قواعد الاختصاص الترابي من إشكالات لا تختلف عن الإشكالات التي تطرح في الموضوع في غير مجال الشغل. هل يمكن اعتبار أن ما يتفق عليه الطرفان يقوم مقام القانون فيما بينهما و بالتالي ترتيب النتائج القانونية عن الاتفاق الذي يخالف أحكام الفصل 214 من مجلة الشغل أم أن الأمر يتعلق بأحكام تهم النظام العام حدّدها المشرّع بصورة خاصّة و لا يمكن الاتفاق على خلافها ؟؟؟

ذهبت محكمة التعقيب نحو اعتبار قواعد الفصل 214 من مجلة الشغل تهم النظام العام ولا يجوز الاتفاق على خلافها من ذلك القرار التعقيبي المدني عـ60873ـدد مؤرخ في 3 أكتوبر 2011 الذي اقر المبدأ التالي  " إن أحكام الفصل 214 من م.ش جاءت واضحة وآمرة وتضمنت مرجع النظر الترابي في المادّة الشغليّة دون ترك مجال للأطراف على الاتفاق على مخالفتها
إنّ ما انتهت إليه محكمة الحكم المطعون فيه لما اعتبرت أنه لا يجوز الاتفاق على مخالفة الفصل 214 من م.ش المنظم لقواعد مرجع النظر الترابي جاء سليما وموفقا وقانونيّا ومسايرا لمحكمة التعقيب بحكم أنّ مجلة الشغل هي قانون خاص وبالتالي يسبق في التطبيق على القانون العام فضلا عن صلته بأحكام النظام العام مما يتعيّن معه ردّ هذا الدفع لعدم وجاهته.
يجد هذا الموقف صداه لدى عديد المحاكم ومنها محكمة الاستئناف بصفاقس في قرار لها عـ65366ـدد بتاريخ 22 جوان 2016، منشور بمؤلف إشكالات في قانون الشغل ج 1 جمعية الحقوقيين بصفاقس ص.725 ...وقد أقرت محكمة الاستئناف المذكورة في هذا القرار ما يلي "حيث حدّد الفصل 214 من مجلة الشغل على وجه الحصر الدوائر الشغليّة المختصة ترابيا بالنزاع الشغلي ولم يسمح لطرفي النزاع بأن يرفعا دعواهما إلى دائرة شغليّة غير الدوائر التي حدّدها اعتمادا على المعايير التي ضبطها وهي مكان المؤسسة التي يقع بها إنجاز العمل ومكان إقامة العامل عند إنجاز العمل خارج المؤسسة بالنسبة للطرفين ومكان التعاقد بالنسبة للعامل فقط وقد كانت صياغة الفصل 214 من مجلة الشغل في صيغة الوجوب بالنسبة لتحديد الدائرة الشغليّة المختصة ترابيّا عند إنجاز العمل بالمؤسسة أو خارجها. وبالتالي فإنّ الاختصاص الترابي في هذين الحالتين يهم النظام العام ولا يمكن للطرفين مخالفته بالاتفاق على معيار آخر لتحديده. من ذلك أنّ الاتفاق بعقد الشغل على تعيين الاختصاص الترابي لدائرة شغلية أخرى لا عمل عليه وهو ما استقر عليه فقه قضاء محكمة التعقيب من ذلك القرار التعقيبي عـ67867ـدد الصادر في 21 أكتوبر 1998 الذي أكدت فيه محكمة التعقيب أن قواعد مرجع النظر الترابي في المادّة الشغلية ينظمها الفصل 214 من مجلة الشغل وبحكم أنّ هذه المجلة هي قانون خاص ولها زيادة على ذلك صيغة اجتماعية فإنّ صلتها بأحكام النظام العام المدنية والتجارية.أما القرارات التعقيبية المستند إليها بمستندات الاستئناف فإنها تتعلق بالاختصاص الترابي في المادّة المدنية والتجارية تطبيقا لمقتضيات الفصل 30 وما بعده من م م م ت ولا تتعلق بالاختصاص الترابي في المادّة الشغليّة بما يتعين معه ردّ هذا المطعن"
وكان الطرف المستأنف قد أسس مستندات استئنافه في هذه القضية على مقولة أن الاختصاص الترابي هو اختصاص عادي ويمكن الاتفاق على مخالفة مقتضياته خلافا للاختصاص الحكمي ويؤكد ذلك بالنسبة للمستأنف قرارات تعقيبية منها القرار عـ1017 بتاريخ 13/02/1962 والقرار عـ8921ـدد بتاريخ 12/04/1973 وعـ7811ـدد بتاريخ 24/02/1983 اعتبرت محكمة الاستئناف بصفاقس ردّا على ذلك أنها قرارات غير صادرة في المدّة الشغليّة.
وقد أسست محكمة الاستئناف بصفاقس قضائها فيما أسست على القرار التعقيبي المدني عدد67867 مؤرخ في 21 أكتوبر1998، ن.م.ت لسنة 1998 قسم2،ص.409 وهو قرار صدر متضمنا بوضوح المبدأ التالي : " حيث أنّ التمسك بعدم الاختصاص الترابي للمحكمة المتعهدة بالدعوى يجب أن يثار قبل الخوض في الأصل وبما أنه ثبت أن نائب المدّعى عليه قد أجاب على أصل الدعوى قبل إثارة مسألة الاختصاص فإنّ المطعن المتمسك به لم يكن في طريقه واتجه ردّه"  
هل يعني هذا وفقا لهذا القرار أنّ النتيجة تكون مغايرة لو وقع التمسك بالدفع قبل الخوض في الأصل؟ يقينا لا يحسم هذا القرار الأمر بصورة مبدئية ويجعل من جواز الاتفاق على مخالفة قواعد الفصل 214 من مجلة الشغل أمرا واردا فضلا عن أنّ وقائع القضيّة تفيد أنّ الخيار هو بين حلّين من داخل الفصل 214 من مجلة الشغل ذاته أي أنّ الاتفاق بين الطرفين اقتضى أن النزاع يرفع لدى المحاكم المنتصبة بتونس وهي محكمة مكان تحرير العقد حسب الفقرة الثالثة من الفصل 214 من م.ش في حين رفعت الدعوى وفقا للفقرة الأولى من الفصل المذكور.
في نفس الاتجاه يمكن القول أنّ الأمر ما زال محل تردد لدى محكمة التعقيب نفسها حيث أنها اعتبرت في مناسبات أخرى ومنها القرار عـ56247ـدد مؤرخ في 26 جانفي 1998 ن.م.ت  1998، م.م.م.ت  ج.1 ص.31 أن عدم الدفع بخرق قواعد الاختصاص الترابي أمام محكمة الموضوع والسكوت أمام محكمة البداية دون طلب أجل للجواب ودون طلب التخلي مما يجعل المحكمة تبت في أصل النزاع يجعل من التمسك بعدم الاختصاص الترابي أمام محكمة الدرجة الثانية مردود على صاحبه طالما أنّ إثارة الدفع بعدم الاختصاص يكون قبل الخوض في الأصل.
كانت محكمة الاستئناف بتونس بوصفها محكم استئناف لأحكام دوائر الشغل قضت  بنقض الحكم الابتدائي الذي صدر لصالح دعوى العامل بالآداء وذلك لعدم الاختصاص الترابي ونقضت محكمة التعقيب هذا القرار معتبرة أن الدفع بعدم الاختصاص الترابي يجب أن يتم قبل خوض المحكمة في الأصل وأنّ عدم إثارته وعدم التمسك بوجوب التخلي لفائدة المحكمة المختصة منذ الطور الابتدائي يعدّ رضاء وقبولا بالتقاضي أمامها لا يخول التمسك به لأول مرة أمام محكمة الدرجة الثانية.
تكرر نفس التمشي تقريبا في القرار التعقيبي عـ17747ـدد بتاريخ 12 ماي 2008
في هاذين القرارين تذكّر محكمة التعقيب بقواعد الدفع بعدم الاختصاص الترابي وبوجوب الدفع بها قبل بت المحكمة في الأصل دون أن تنكر بوضوح عدم جواز الاتفاق على ما يخالف قواعد الفصل 214 من مجلة الشغل وهي بذلك تترك المجال مفتوحا أمام اعتماد مثل هذا الاتفاق بمعنى أن السؤال يبقى مطروحا هل تكون النتيجة مختلفة لو أن الدفع بعدم الاختصاص يتم منذ الطور الابتدائي؟؟
يمكن الجزم بأن الاتجاه المتغلب هو اعتبار أنه لا يمكن الاتفاق على مخالفة قواعد الاختصاص الترابي في المادّة الشغليّة المسطّرة بالفصل 214 من مجلة الشغل إلا أنه لا يجب التقليل من قيمة المفعول السحري لمبدأ "العقد شريعة الطرفين" التي كلّما دفع بها أمام القاضي إلا وبثت ارتباكا وحيرة.


قد يكون لهذه القراءة أثر في توجه عديد محاكم الأصل التي لا تزال تعتبر قواعد الاختصاص الترابي قواعد لا تهم إلا مصلحة الخصوم يمكن الاتفاق على خلافها بناءا على مبدأ " العقد شريعة الطرفين"  من ذلك الحكم الابتدائي الصادر عن دائرة الشغل بالمحكمة الابتدائية بزغوان بتاريخ 3/04/2014 عـ14157ـدد والحكم الابتدائي عـ13813ـدد الصادر عن نفس المرجع بتاريخ 13/03/2014.


تمثلت وقائع القضيتين في قيام العامل بدعوى شغلية أمام المحكمة الابتدائية بزغوان وهي المحكمة التي توجد بدائرتها المؤسسة وأمام دفع المؤجر بعدم اختصاص المحكمة ترابيّا بناء على شرط في عقد الشغل يجعل من المحكمة المختصة في صورة نزاع محكمة تونس العاصمة قضت المحكمة في الملفين برفض الدعوى بناء على عدم الاختصاص الترابي ملاحظة أنه " لئن نص الفصل 214 من م ش على إمكانية رفع النزاع من العامل أمام دائرة الشغل التي توجد بدائرتها المؤسسة التي يتم فيا إنجاز العمل أو مكان إقامة العامل أو التي بها التعاقد إلا أن المشرّع لم بمنع طرفي التعاقد من الاتفاق على تحديد المحكمة المختصة ترابيّا و...يبقى العقد شريعة الطرفين"

Aucun commentaire: